[size=18[center]]
سبق لنا الحديث عن أن اللغة العربية هي لغة القرآن وهو لا يفهم إلا بتعلمها، ومن ثم فإحياؤها إحياء للإسلام الأمر الذي دعا أهل العلم أن يقولوا بوجوب تداولها والتحدث بها، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب بل قالوا بكراهة الرطانة بلغات أخرى من لغات العجم إن كان هذا يؤدي بصاحبه أن يعتاد الحديث بها على حساب لغة القرآن وما ذلك إلا لأن القرآن هو كتاب أهل الإسلام، واللسان العربي هو شعارهم، وعليه فلا خير فيهم إذا ما تخلوا عن مصدر عزهم وأساس قوتهم
ونود أن نضيف هنا أنه إذا كانت اللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون، فإن الأمة العزيزة القوية هي التي تعتز بلغتها، وتعمل على فرضها وتحرص على استقلالها اللغوي كما تحرص على استقلالها العسكري والاقتصادي تماماً، وهي التي تحترم قوانينها اللغوية وتتمسك بأهدابها، والعكس صحيح فالأمم الذليلة المستضعفة هي التي تفرط في لغتها حتى تصبح أجنبية عنها مع أنها منسوبة إليها من هنا «كره الإمام الشافعي لمن يعرف العربية أن يُسمِّي بغيرها، وأن يتكلم بها خالطاً لها بالأعجمية، وهذا الذي ذكره، قاله الأئمة مأثوراً عن الصحابة والتابعين» الاقتضاء ص وينظر فضل العربية لمحمد بن رسلان ص ، وما انفك السلف يكرهون تغيير شعائر العرب بالتحدث بغير العربية حتى في المعاملات، كما نص على ذلك مالك والشافعي وأحمد، بل قال مالك من تكلم في مسجدنا بغير العربية أخرج منه ، مع أن سائر الألسن يجوز النطق بها لأصحابها ولكن سوّغوها للحاجة، وكرهوها لغير الحاجة ولحفظ الإسلام، فإن الله أنزل كتابه باللسان العربي، وبعث به نبيه العربي، وجعل الأمة العربية خير الأمم، فصار حفظ شعارهم من تمام حفظ الإسلام ينظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام
وعندما كان العرب يفتحون بلداً من البلدان لم يكونوا بالتاركين لسانهم ولسان قرآنهم من أجل لسان أحد، وإنما تغلب العربية على أهل المصر المفتوح حتى تُطبق عليه ويعتادها وسبحان مغير الأحوال كانوا يكرهون بشدة أن تتفشى فيهم العجمة والرطانة البعيدتان عن لغة القرآن وأهله، وفى ذلك يقول صاحب اقتضاء الصراط المستقيم «واعتياد الخطاب بغير العربية التي هي شعار الإسلام ولغة القرآن حتى يصير ذلك عادة للمصر وأهله، ولأهل الدار، وللرجل مع صاحبه، ولأهل السوق، أو للأمراء، أو لأهل الديوان، أو لأهل الفقه مكروه، فإنه من التشبه بالأعاجم، ولهذا كان المسلمون المتقدمون لما سكنوا أرض الشام ومصر ولغة أهلهما رومية وأرض العراق وخراسان ولغة أهلهما فارسية وأرض المغرب ولغة أهلها بربرية عوَّدوا أهل هذه البلاد العربية، حتى غلبت على أهل هذه الأمصار مسلمهم وكافرهم» الاقتضاء ص
وكما لا سبيل لتأدية أسس الإسلام ودعائم الدين إلا بتعلم الفصحى، فإنه لا سبيل إلى معرفة إعجاز القرآن الكريم والوقوف من ثم على صدق الموحى إليه به ، إلا عن طريق معرفة لغة العرب التي بها نزل القرآن ومن لم تكن له بذلك دراية ولا له عليه إقبال، فشأنه شأن العجمي الذي يعرف الإعجاز في القرآن، من عجز العرب عن الإتيان بمثله وحسب، دون أن يقف هو على حقيقة ذلك
وأود أن أقرر هنا أنه على قدر المعرفة بلغة العرب، تكون المعرفة بفضل القرآن وعلو شأنه، وبمقدار نقص آلات المعرفة يكون النقص في إدراك إعجازه البياني، وفى ذلك يقول ابن القيم «وإنما يعرف فضل القرآن من عرف كلام العرب، فعرف علم اللغة وعلم العربية وعلم البيان، ونظر في أشعار العرب وخُطَبها ومقاولاتها في مواطن افتخارها، ورسائلها وأراجيزها وأسجاعها، فعلم منها تلوين الخطاب ومعدوله، وفنون البلاغة وضروب الفصاحة ومحاسن الحِكَم والأمثال فإذا علم ذلك ونظر في هذا الكتاب العزيز ورأى ما أودعه الله سبحانه فيه من فنون البيان، علِم كيف عجزت عن مجاراته فصحاؤهم، وكلَّت عن النطق بمثله ألسنة بلغائهم، فيقع من ثم في النفوس عند تلاوته وسماعه من الروعة ما يملأ القلوب هيبة، والنفوس خشية، وتستلذه الأسماع، وتميل إليه بالحنين الطباع» ينظر الفوائد المشوق لابن القيم ص
على أن التهاون في تعلم الفصحى وافتقاد السعي الدءوب في تعلمها والوقوف على أسرارها قد يؤدي أحيانا إلى الانحراف عن دين الله، ولقد قرأ رجل قول الله تعالى «وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» التوبة ، فنطق ورسوله بالكسر، فسمع ذلك أعرابي، فقال أو قد برئ الله من رسوله؟ ، إن كان ذلك فلقد برئتُ منه، فذهبوا إلى عمر، فقال ليس هكذا يا أعرابي ولكن أن الله بريء من المشركين ورسولُه أي ورسوله برئ كذلك يعنى بالرفع على أنها مبتدأ لخبر محذوف فقال الأعرابي وأنا أبرأ مما برئ اللهُ ورسولُه منهم
وإذا كانت الألسنة متباينة وتلك سنة من سنن الله وآية من آياته فلا بد أن يكون بعضهم تبعاً لبعض وأن يكون الفضل في اللسان المتَّبع على التابع، وأولى الناس بالفضل في اللسان لسان النبي ، ولا يجوز والله أعلم أن يكون أهل لسانه أتباعاً لأهل لسان غير لسانه في حرف واحد، بل كل لسان يجب أن يكون تبعاً للسانه، وكل أهل دين قبله، عليهم اتباع دينه، وبذا يظهر دين الحق على الدين كله ولو كره المشركون يقول الشيخ أحمد شاكر في تحقيق الرسالة للشافعي «إن الأمة التي نزل بلسانها الكتاب الكريم يجب عليها أن تعمل على نشر دينها ونشر لسانها ونشر عاداتها بين الأمم الأخري وأن تكون في ذلك كله كما قال الشافعي رضي الله عنه تبعاً لا متبوعاً» الرسالة بتحقيق أحمد شاكر ص
وإذا كان الإسلام يسعى جاهداً لتوحيد المسلمين، ويعمل دائماً وأبداً على أن يجعلهم أمة متآخية متآلفة، فإن اللغة العربية هي أنجع الوسائل الموحدة لألسنتهم وبالتالي بين عقولهم وأفكارهم وتوجهاتهم، وهى التي تمحو ما بينهم من فروق، وتُزيل ما بينهم من غربة، وهي في النهاية التي تصهرهم في عقيدة واحدة شعارها لا إله إلا الله محمد رسول الله
ولقد أدرك الاستعمار كل هذا فعمل على طمس معالم هذه الأمة الواحدة، بتغيير لغتها أولاً، فراح يشوهها ويشوه صورة المتكلمين بها تارة، ويصفها بالتخلف والرجعية والجمود تارة، ويشيع اللهجات العامية في بلاد المسلمين تارة، وينادي بضرورة تعلم اللغات الأجنبية ويشجع على ذلك بدعوى الحداثة ومواكبة العصر تارة، وتوالت أثناء ذلك وفيما بعد، الهجمات الاستعمارية بعد أن سهل عليها إذابة تلك الأمة الوسط وتيسر لها مسخ هويتها وتغييب شعارها، فأصبحت حينذاك ذيلاً لتلك الحضارات الاستعمارية الناهبة لعقول شعوب العالم الإسلامي بعد ثرواتها، وتابعة لها وذلك من شديد ما يؤسف له في أحكامها وقوانينها بل وفى عاداتها وتقاليدها، وصارت بحيث لو سلكوا جحر ضب خربٍ لسلكته
والغريب أن يحدث كل هذا لأمة الوحدة والتوحيد والاعتصام بحبل الله، وأن نجد ممن هو محسوب على الإسلام وأهله من يشجع له، في الوقت الذي نرى فيه الأعاجم يعتزون بلغاتهم، ونرى واحداً كالقائد الفيتنامي هو شى مينه يدعو أبناء أمته قائلاً «لا انتصار لنا على العدو إلا بالعودة إلى ثقافتنا القومية ولغتنا الأم»، ويقول لهم في إحدى وصاياه «حافظوا على صفاء لغتكم كما تحافظون على صفاء عيونكم، حذار من أن تستعملوا كلمة أجنبية ما كان بإمكانكم أن تستعملوا فيه كلمة فيتنامية» والأغرب أن نجد حتى هؤلاء المغضوب عليهم الذين قطعهم الله في الأرض أمماً، ومزقهم بين شعوب العالم كل ممزق، وأضحوا بحكم ذلك أصحاب لغات شتي نراهم وقد تآلفت قلوبهم على إحياء لغتهم يعتزون بالعبرانية التي كتبت بها توراتهم وماتت منذ ألفي سنة، ويعتمدونها في جميع شئون حياتهم تعليماً وإعلاماً وتواصلاً، حتى صاروا بذلك قوة تقض مضاجع المسلمين الكُثر في أنحاء العالم وتقلق راحتهم وتثنيهم عن نشر دينهم على نحو ما نرى الآن، وما ذلك إلا لهوان المسلمين وتهاونهم عن الاعتزاز بلغتهم ودينهم
وللاطمئنان أقول إن علماء اللغة المحدثين قرروا أن اللغات التي يُظن بها السيادة اليوم مهما بذل أهلها من جهد لا تملك أن تدفع عن نفسها عادية التغيُّر حتى إنها لتصير بعد فترة وجيزة كأنها لغات جديدة أما العربية فارتباطها بالقرآن الكريم الناسخ لما قبله والمهيمن عليه، جعل لها ظرفاً خاصاً لم يتح لأي لغة من لغات العالم كلها، ولولا أن الله شرف الفصحى فأنزل بها كتابه وقيض لهذا الكتاب من خلقه من يتلوه صباح مساء، ووعد بحفظه على تعاقب الأزمان لأمست كغيرها لغة أثرية، ولسادت اللهجات العربية المختلفة في نواحي الأرض العربية، ولازدادت على مر الزمان بُعداً عن الأصل الذي انسلخت منه ينظر فصول في فقه العربية وفضل العربية ، ، ولمثل هذا وبمثله سيكتب لها بفضل الله ومشيئته الخلود، وصدق الله القائل «فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ» الرعد
ونخلص من كل هذا إلى أن العربية من الدين، وأن تعلمها لفهم مقاصد الكتاب والسنة قربة من أجلّ ِالقربات إلى الله تعالى، وأن تغييبها عن ساحة الحوار تحت أي مبرر صدٌّ عن سبيل الله، وصدع لا يَُرأب، وذنب لا تُقبل له توبة، وجريمة لا تُغتفر في حق هذه الأمة المنوط بها قيادة العالم وريادته لأن ذلك يعني صرف المسلمين عن منهج دينهم وعماد شريعتهم ودستور حياتهم وهو القرآن الكريم، فإن اللسان العربي على حد قول ابن تيمية سالف الذكر شعار الإسلام وأهله الذي به يتميزون
وعلينا إن كنا نريد بعثاً لهذه الأمة من جديد وريادةً للعالم على طريق الصلاح والإصلاح أن نوثق صلتنا أولاً بهذه اللغة العريقة وأن نتفانى في تعلمها وتعلم بلاغتها، وأن نجعل ذلك قربة نتقرب بها إلى الله وديناً ندين الله عليه
والله نسأل أن يعيننا على ذلك وعلى فهم كتابه والعمل له وبه، وأن يقوي بذلك إيماننا وأن يوثق أواصر الصلة بين أممنا إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير وهو نعم المولى ونعم النصير
من مجلة التوحيد[/size]